في أبريل الماضي قاد آلاف الإسرائيليين تظاهرة تضامنية مع عائلات الأسرى تطالب بإقالة نتنياهو من رئاسة الحكومة بعد فشلها في تحقيق أهداف الحرب التي شنت على غزة منذ أكتوبر الماضي، إحدى أبرز قادة هذه التظاهرات كانت نعومي لازمي عضوة الكنيست من حزب العمل يسار الوسط التي بررت إقامتها بـ«أن الناس خرجوا للاحتجاج لأنهم أدركوا أن الحكومة فشلت».
شكلت تلك التظاهرة واحدة من أحدث مظاهر رفض اليسار الإسرائيلي لكثير من سياسات دولة الاحتلال، رفض قد يمتد في بعض الأحيان لمعارضة وجود تلك الدولة نفسها.
منذ قديم الأزل شكلت النظرية الأساسية للسياسة الإسرائيلية أزمة وجودية لأغلب النظريات السياسية والاجتماعية العالمية؛ فبسبب أهمية الإطار الاستعماري القومي الذي تستند عليه دعائم دولة الاحتلال، وقع التعارض مع جذور النظريات السياسية المؤسسية لأي نظام ديمقراطي بما تتطلبه من نقد ذاتي من شأنه أن يهدد وجود الكيان نفسه.
كان لليسار الصهيوني النصيب الأكبر من تلك الأزمة، بدءاً من تعرضه للخنق السياسي طوال السنوات الماضية، وصولاً إلى استخدام القوة في تفريق مظاهراته المنددة بجرائم الاحتلال في غزة، بعدما وصل إلى مرحلة سياسية حرجة تعارضت فيها جذور أطروحاته النظرية مع سياسة الحكومة الإسرائيلية الاستعمارية التي شكل اليسار تاريخياً جزءاً أساسياً في تكوينها، الأمر الذي قاد السياسة الإسرائيلية إلى موقف متضارب لا سبيل إلى حله.
بذل الصحفي والحقوقي برنارد لازار (1865-1903) جهوداً كبيرة ضد معاداة السامية في أوروبا دفاعاً عن الجالية اليهودية في فرنسا بإصداره عدة مقالات حول الشأن اليهودي وتصديه للدفاع عن قضية شهيرة باسم الكابتن دريفوس اليهودي المتهم بالخيانة في صفوف الجيش الفرنسي.
بسبب هذه المجهودات بات برنارد عضواً نشطاً في الحركة الصهيونية الأولى، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يرسل للزعيم الصهيوني الشهير ثيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول قائلاً: «أنتم برجوازيون في أفكاركم ومشاعركم وآرائكم، إنكم برجوازيون في مفهومكم عن المجتمع».
أرسلت هذه البرقية العنيفة رغم انتماء لازار للصهيونية العالمية الذي لم ينقذه من الجدلية المعقدة التي سيطرت على ذهنه وعلى ذهن أغلب معتنقي الفكر القومي اليهودي، بعدما وقع فكره الفوضوي -الداعي لإلغاء السلطة الحكومية التقليدية والاعتماد على منظمات المجتمع المدني- في مأزق بسبب الطبيعة الخاصة لإسرائيل.
تمتد تلك الأزمة طوال تاريخ الحركة الصهيونية، بل ووجدت لنفسها مساحة أكثر وضوحاً في ظل تطور الحركة الصهيونية وسيطرتها الشمولية على المجتمع الإسرائيلي الحديث لاحقاً.
قبيل سنوات من إنشاء إسرائيل أخذ يهود أوروبا وروسيا في تشكيل أحزاب لمواجهة الرأسمالية العالمية والمطالبة بحقوقهم الإنسانية. نشأت في ظل القيصرية الروسية وتحديداً في عام 1897 رابطة العمال اليهودية البوند بوصفه حزباً اشتراكياً يهودياً يطالب بمنح اليهود حقوقهم السياسية والاجتماعية، ويُعد نفسه جزءاً من النضال الاشتراكي العالمي ضد البرجوازية الأوروبية.
ناصرت رابطة البوند الحركة الاشتراكية العالمية ودعمت إنشاء حركة عمالية متحدة، مع ضرورة الحفاظ على الهوية الثقافية لكل أقلية داخل مجتمعاتهم التي نشؤوا فيها، لذا عارض الحزب مبادئ الفكرة الصهيونية الناشئة آنذاك التي نادت بإنشاء وطن قومي لليهود.
اعتبرت البوند أن جزءاً كبيراً من أفكار الحركة الصهيونية القومية تتعارض مع مبادئها الاشتراكية الأساسية، بل رأت أن بعض أفكار المنظمة الصهيونية ذات منحى نخبوي لما حثت عليه من إرساء اللغة العبرية لغة قومية بدلاً من اللغة اليديشية الدارجة في الأوساط اليهودية الأوروبية آنذاك.
نشطت رابطة البوند في الحقل السياسي الروسي في محاولة لتشكيل حركة ثورية لإسقاط الإمبراطورية الروسية القيصرية وتحويلها إلى دولة اشتراكية ديمقراطية، آملين بذلك ضمان حق الأقليات بمن فيهم اليهود، لذا أسهموا في تأسيس حزب العمال الاشتراكي الروسي في 1898، الذي قاده فلاديمير لينين مؤسس الدولة الشيوعية الروسية.
ورغم رفض لينين مطالب البوند بالحفاظ على الخصوصية اليهودية فلقد توالت أعمال اليسار اليهودي المعارضة للقيصرية، وخلال الثورة الروسية الأولى في عام 1905 شكلت الرابطة مجموعات من المقاتلين لمواجهة السلطة القيصرية التي أجهضت الثورة، بعدها عادت الرابطة إلى نشاطها الاجتماعي السلمي بين طوائف المجتمع اليهودي.
في أبريل 1917، انقسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى فريقين، أحدهما بزعامة فلاديمير لينين ممثلاً عن البلاشفة المؤمنين بالإجراء الثوري بقيادة طبقة العمال لتغيير النظام القيصري، في مواجهة المناشفة بقيادة يوليوس مارتوف الذين فضلوا التغيير السياسي التدريجي لإيمانهم بأن روسيا بحاجة إلى نوع من التطور الرأسمالي قبل إشعال ثورة اشتراكية بها.
على وقع هذا الصراع انقسمت الرابطة اليهودية أيضاً بين فريق كبير مؤيد للبلاشفة وآخر أقل حجماً دعم المناشفة حمل اسم الحركة الديمقراطية الاجتماعية. حافظ الفريق الشيوعي اليهودي المؤيد للبلاشفة على أفكاره المعادية للصهيونية، التي اعتبروا أنها ما هي إلا جيتو جديد ليهود العالم، يتعارض مع مصلحة اليهود في أن ينالوا حقوقهم الإنسانية داخل الدول كأقلية تمتلك حقوقها الأساسية وتنخرط في النضال الاجتماعي ضد الرأسمالية الناشئة.
صراع البوند مع الصهيونية لم يمنع تصنيفها حركة ثورية يهودية خلاقة في السياسة الأوروبية آنذاك، اكتسبت شعبية تدريجياً فلم تتوقف على حدود روسيا التي أصدر قادتها الشيوعيون قراراً بحل البوند في أبريل عام 1921.
ازدهرت الحركة في بولندا أيضاً حتى نجحت في حصد قرابة 10 آلاف صوت انتخابي في الانتخابات الوطنية البولندية عام 1928، أيضاً نشطت في الرد على الحركات البولندية المعادية للسامية وأسهمت في تأسيس دور ثقافي يهودي بإنشاء دور النشر ومدارس خاصة لتعليم اللغة اليديشية.
في مرحلة لاحقة سيشكل أعضاء تلك الرابطة عوناً رئيسياً لبن جوريون خلال مساعيه الأولى لبناء إسرائيل؛ فعلى الرغم من الاختلاف الأيديولوجي الكبير بين بن جوريون والبوند فإنهما عملا معاً بشكل غير رسمي إبان الحرب العالمية الثانية لحماية الجاليات اليهودية أمام الغزو النازي البولندي، وامتد هذا التعاون أيضاً عندما استعان بن جوريون بمجموعات صغيرة منهم لإنعاش الحياة داخل المستوطنات الإسرائيلية بعدما كلفهم بمهام التدريب والتعليم لليهود داخل المستوطنات لتعزيز العمل الزراعي والصناعي تحت لواء حزبه.
بعدما توالت الانشقاقات عن الرابطة بسبب خلافات مستمرة بين أعضائها، انتهى وجودها اليوم تقريباً، ولم يعد متبق منها إلا مجموعة ضئيلة لا تزال محافظة على مبادئها الأساسية -في السياق الرسمي- فشكلت حركة شبابية أمريكية تسمى SKIF ذات نشاط تثقيفي، كما تشرف حتى الآن على أرشيف البوند في الولايات المتحدة الأمريكية.
بحسب ما ذكره ديفيد بن جوريون في مذكراته الشخصية، فإن أيامه الأولى في دولة إسرائيل لم تكن سهلة؛ فبسبب جسده الهزيل لم يستطع توفير قوت يومه، إذ تعمد أرباب العمل استثناءه وتفضيل العرب عليه باعتبارهم أمهر وأرخص، الأمر الذي شكل أزمة في نفسية بن جوريون وعده أمراً يهدد الوجود اليهودي نفسه في هذه القطعة من الأرض.
في مرحلة لاحقة من حياته التحق بن جوريون بحزب عمال صهيون القومي، منذ مؤتمره التأسيسي الأول في بولتافا الروسية 1897 تبنى المؤتمر أفكاراً ماركسية متشددة بشأن الفكرة القومية اليهودية، وبعد عام واحد من تأسيس الحزب أعلنت إقامة فرع بالقدس في فلسطين. بمرور السنوات وفد بن جوريون على فلسطين ضمن موجة الهجرة الثانية بين عامي (1904- 1914) المعززة من قبل الحركة الصهيونية العالمية بهدف إنشاء المستوطنات اليهودية، على عكس الهجرة الأولى (1882- 1903) الخارجة من الأراضي الأوروبية من دون هدف واضح سوى الهروب من الاضطهاد الأوروبي. بعدها انضم إلى الحزب وترقى في صفوفه حتى بات رئيساً لفرعه في القدس.
في هذه السنوات شكلت الجاليات اليهودية العاملة أزمة رئيسية لأعضاء الحزب العمالي بعدما واجهوا صعوبة في العثور على عمل بعكس جاليات الهجرة الأولى الذين كانت أحوالهم المالية جيدة وحرصوا على تشغيل العمالة العربية الماهرة والأرخص آنذاك. حتى ذلك الوقت كانت عقيدة الحزب العمالي لم تتلوث وبقيت وفية لمبادئها التأسيسية التي نادت بالوحدة الطبقية بين جميع العمال أياً كانت جنسياتهم ومعتقداتهم الدينية، وهو الأمر الذي مثل معضلة كبيرة للحزب بعد حمله داخل فلسطين.
شكلت قضية العمال اليهود مؤتمر الرملة الذي انعقد في يوليو 1948 بمدينة الرملة ذات الأغلبية الفلسطينية حينها، إذ أخرج بيانه الذي عد أن العمال العرب الساكنين في أرض إسرائيل غير قادرين على إدارة حرب طبقية ضد الرأسمالية، لذا يجب على العمال اليهود خارج أرض إسرائيل الهجرة إليها وخوض تلك الحرب العالمية بدلاً من نظرائهم العرب.
حاول الحزب الوقوف في منطقة الوسط من أزمة فلسطين المعقدة، فأكد أن العامل العربي هو صديق لهم، بينما مشكلة الحزب الرئيسية هي مع الثري العربي، لذا عدَّ بن جوريون أن أحد أهداف حزبه الرئيسية هو تحريض العمال العرب على الثورة ضد الإقطاعيين وأبناء الطبقة الرأسمالية العربية.
لم تصمد هذه الأطروحات التوفيقية كثيراً، فسريعاً اقتحمت برامج الحزب العمالي الفكرة القومية اليهودية ودعوات الفصل العنصري بين العرب واليهود، فنادى الحزب بإنشاء حكم ذاتي مستقل لليهود في أرض فلسطين.
توالت على إثر ذلك أعمال الحزب بقيادة بن جوريون لإرساء الهوية اليهودية في فلسطين عبر إقامة المؤسسات الاجتماعية المختلفة، وتوفير أماكن عمل للعمال وخدمات المساعدة الطبية والضمان الاجتماعي في حالة البطالة، كما أنشأ مجموعة مسلحة للدفاع عن المستوطنات اليهودية حملت اسم هاشومير كانت النواة الأولى لتنظيم هاجاناه الذي يعد حجر الأساس للجيش الإسرائيلي الحالي.
على جانب مواز تعمقت علاقة قادة حزب عمال صهيون في فلسطين وبين قادة النقابات العمالية الإسرائيلية غير الحزبية آنذاك، ونتيجة لهذا التعاون أنشئت خمسة تشكيلات عسكرية يهودية تطوعت في الحرب العالمية الأولى للحرب في صفوف الجيش البريطاني عرفت تاريخياً باسم الفيلق اليهودي. أقدم بن جوريون على تلك الخطوة بعدما تراجع عن الاعتقاد في حتمية انتصار الجيش العثماني، وتأكد من موقف بريطانيا الداعم لليهود بعد إصدار وعد بلفور 1917.
على إثر التحالف بين حزب بن جوريون والنقابات تكون حزب الوحدة العمالية الذي أسس الهستدروت، وهي نقابة عامة للعمال العبرانيين. شكلت الهستدروت قوة اجتماعية بارزة في إسرائيل آنذاك وقادها بن جوريون لمدة 15 عاماً تقريباً سعى فيها إلى التخلي عن الرواسب الاشتراكية الديمقراطية بشكل نهائي لترسيخ مبادئ الاشتراكية القومية على خطى الحزب النازي الألماني.
عمل بن جوريون على تصفية العمالة العربية بشكل كامل، وخلق اقتصاد مواز لليهود في فلسطين، وفضلهم عنصرياً من خلال مؤسسات منهجية وجدت لها في الكيبوتسات -وهي مستوطنات يهودية ريفية ذات نهج اشتراكي تعاوني- صورتها التطبيقية، مما رفع من حصيلة عدد الكيبوتسات في الأراضي الفلسطينية قبل النكبة من كيبوتس واحد في بحيرة طبريا عام 1909 إلى 82 مستوطنة سكنها 26 ألف فرد في عام 1940.
في يناير 1930 اندمج حزب الوحدة العمالية مع حزب هبوعيل هتسعير القومي معلناً إقامة حزب ماباي برئاسة ديفيد بن جوريون، وظل هو القوة المسيطرة على السياسة الإسرائيلية ليحصد 46 مقعداً من أصل 120 في انتخابات الكنيست الأولى عام 1949 بنسبة 38% ليصبح القوة المسيطرة على الحكومة بعد التأسيس.
امتد نجاحه بنفس النسب تقريباً حتى عام 1959 في الانتخابات الرابعة للكنيست، إلى أن اندمج في 1968 مرة أخرى مع عدة حركات يسارية على رأسها حزب رافاش-التجمع الشيوعي مكوناً معاً حزب العمل، إلا أن هذا الاندماج لم يحرز كثيراً من القوة بعدما تراجعت قوة اليسار أمام ظهور الصوت اليميني واكتسابه مساحات كبيرة من الرأي العام الإسرائيلي.
حمل حزب ميرتس الراية اليسارية في التسعينيات بسبب مواقفه المعاصرة للشارع الإسرائيلي، أما حزب العمل فأثرت الاختلافات الداخلية عليه وتضاءل وجوده تدريجياً حتى كاد يتلاشى في إعلان صريح على انتصار الفكر القومي الاستعماري في إسرائيل على أي أطروحات أخرى.
منذ نشأته عانى اليسار اليهودي من مشكلة وجودية تقوم على وجود إسرائيل ذاتها وتهددها في آن، إذ شكل التخبط بين حقوق العمال والنضال من أجل الطبقة العاملة جذوراً للفكر الاشتراكي الذي صاغ منه العالم أجمع بعضاً من حقوقه المشروعة تعارضاً شديداً مع الفكر القومي القائم على الفصل العنصري الإسرائيلي.
فبجانب توحيد إسرائيل عمليات الاستعمار والفصل العنصري في إطار أيديولوجي، الذي لن يمتلك قوته كأي أيديولوجية سياسية طويلة الأمد إلا بالسيطرة المسلحة على أبناء المجتمع نفسه، وهي خطوة لن تستطيع دولة استعمارية متعددة الانتماءات العرقية الخوض فيها بأريحية لأنها تجعل وجودها مهدداً بشكل دائم.
نتيجة لهذه الهوة المتطرفة التي سقطت فيها إسرائيل تعرض اليسار إلى الخنق السياسي على مدار الوقت، وهو ما تمثل في تآكل حزب العمل وأيضاً حزب ميرتس الذي حقق نتائج كارثية في الانتخابات الأخيرة.
تمثلت مظاهر الخنق السياسي في الصدامات المتكررة بين اليساريين والدولة مثلما جرى مثلاً في 2021 حين قمعت تظاهرة يسارية مؤيدة لأهالي الشيخ جراح، وللسخرية فإن حتى القمع الإسرائيلي للمظاهرات اتسم بالعنصرية بعدما استعملوا الماء العادي مع الإسرائيليين بعكس ما كان يجري مع الفلسطينيين الذين كانوا يواجهون بالماء الملوث!
إن التفوق السياسي للتيار اليميني في إسرائيل لا يرجع إلى التفوق في إطار العمل السياسي فقط، بقدر ما يحمله من آمال المجتمع الإسرائيلي نفسه، المجتمع الذي لم يعد يؤمن إلا بالأساليب العسكرية والأفكار المتطرفة باعتبارها صمامات الأمان القادرة على حفظ أركان الدولة من الانهيار، حتى لو قادت اليمين المتطرف إلى السلطة ذات الأيديولوجيات الدينية المتشددة التي ستحد كثيراً من الديمقراطية الإسرائيلية وستقودها إلى الكوارث، وهنا مكمن التناقض والخطورة التي لم تعد النظرية الصهيونية قادرة على الهروب منه.